تُستخدم في الغالب تسرعاً عبارة الرؤية التقليدية للإشارة إلى الرؤى التراثية الشّارحة أو التي لا تستطيع التحرّر من سجن المقولات التقليدية، ولكن الرؤية التقليدية اليوم هي التي كانت أصلاً ضدّ الرؤية الأولى على اعتبار أنها في العقد الأخير من القرن الماضي ظلّت تحاول تطبيق مفاهيم وتصورات منهجية غربية على التاريخ والتراث العربيين ـ الإسلاميين، وتصوّر بعض المفكرين العرب أن معركة الحداثة والتقدم هي في البهرجة اللفظية وترحيل المفاهيم وإنباتها بالقوّة في النصوص العربية التراثية، وإذا أخذنا أمثلة على ذلك فيمكنك أن تقرأ نصاً ما في الفكر العربي المعاصر وتحاول أن تفصل المعجم المفاهيمي المُستخدَم والنصوص التراثية المستعملة لوجدت نفسك أمام كتابين منفصلين، ومن هنا التقليدية ليست فقط الرؤية التراثية كما تعودنا على ذلك ولكنها أيضاً قد تكون الرؤية التي تدّعي العصرنة والحداثة، ولذا أتصور أن نقد حصيلة الفكر العربي المعاصر في الثلاثين سنة الأخيرة مهمّ للكشف عن رؤيته التقليدية والموانع المعرفية والمنهجية والتاريخية التي لم تسمح له تجاوز ما انتقده عند الآخرين والفواصل الموهومة بين الحداثة والتقليد أو الأصالة والمعاصرة تحتاج إلى المراجعة، كما أن بعض الحداثيين العرب تحولوا إلى ''دعاة للحداثة'' يناضلون أكثر مما يبدعون ويستشرفون المستقبل، وهم الذين ظلّوا لعقد من الزمن أو أكثـر يصورون لنا المعتزلة وكأنهم أسلافهم في العقلانية والبرهان ولكنك حين تفحص مقولاتهم ينتهون أيضاً إلى التكفير الشائبة التي لم تسلم منها معظم الفرق الإسلامية.
إن التطورات العلمية والتكنولوجية في ''مجتمعات المعرفة'' سواء منها الغربية وبعض الدول الآسيوية تجعلنا نسأل مرة أخرى هل نحن في حاجة لخطاب جديد حول قضايا التراث والتاريخ والدين؟.
هل من المعقول أن يظلّ بعضنا يكرّر بأسى أنّ نهاية العقلاينة مع ابن رشد وابن خلدون؟ وهل العقل العربي الإسلامي توقف مع موت ابن رشد؟ هل بقي في سبات عميق لمدة ثمانية قرون إلى زمن النهضة العربية؟ وهل تراثنا هو فقط ما أنجز في القرن الرابع الهجري؟ وهل ذكرياتنا وتاريخنا هو ما كتب أي الثقافة العالمة؟، ألسنا في حاجة لإعادة رؤيتنا للتراث ونقد نقد التراث؟، ولماذا نغفل استمرار الاجتهاد الشيعي الديني والفلسفي مع الشيرازي وغيره؟، وماذا عن مساهمات الإباضيين في العقائد والفقه؟.
إن القراءة التأويلية في فرنسا مثلاً في الستينات لم يُلتفت إليها بحكم سطوة البنيوية والماركسية والوجودية واستمرّ هذا التجاهل إلى زمن منتصف الثمانينات من القرن الماضي، وكان أبرز المشتغلين بهذا الحقل المعرفي المتنوع الجديد الذي يعود إلى حصيلة فكر نهاية القرن التاسع عشر الذي كان ضدّ النزعة الوضعية في رؤيتها للإنسان والثقافة والمعرفة هو بول ريكور الذي كان مساره الفكري السؤال عن ''الفعل الإنساني'' مستفيداً في ذلك من التحليل النفسي وثمرات التطورات الحاصلة في الثقافة الأنجلوسكسونية محافظاً طبعاً على تكوينه الأول في الفلسفة الظواهرية ''الفينومولوجية''، وقد انتقلت إلينا نحن القراءات التأويلية المعاصرة ولكن بنفس الطريقة والآليات التي كتب بها مفكرون عرب سابقاً سواء كان تأثرهم بالماركسية أو بالبنيوية أو بمنهجيات أخرى.
إنّ الصراع مع السلفيين والذين يرفضون القراءات الجديدة عليه أن يتناول كذلك القضايا الجوهرية على اعتبار أن الذين يقودون هذا الصراع من الحداثيين والتجديين يقدمون لنا هم أيضاً تحيّزات فكرية ومفهومية بالمعنى الذي أشار إليه عبدالوهاب المسيري، ويَبلُون في الدفاع عنها بدل الإبداع الحقيقي، والقراءة التأويلية المعاصرة اليوم لا تُخْلص لمدرسة واحدة أو معرفة معيّنة، هي تستفيد من جميع حقول المعرفة الإنسانية ومن الهندسة اللغوية الجديدة والتطورات الحاصلة في العلم.
الكاتب : بومدين بوزيد
0 التعليقات:
إرسال تعليق